الـلـــــــغـــــــة
I. مقدمة عامة :
«الإنسان حيوان ناطق» فكرة آمن بها وروج لها اليونان منذ عدة قرون خلت. ولكن ما المراد بكون الإنسان ناطقا ؟ ثم هل الإنسان وحده الكائن الناطق أم أن هنالك حيوانات أخرى تشاركه هذه السمة ؟ وقبل هذا وذاك ما المراد بالنطق ذاته ؟…
قد نقول مبدئيا بأن المقصود بالنطق لدى الإنسان ليس كونه كائنا صائتا فحسب بل وكونه كائنا يستعمل اللغة ، إذ شتان بين هذا وذاك . فنحن نجد ضمن باقي الحيوانات كائنات قادرة على التصويت (كالببغاء مثلا) دون أن تكون قادرة على استخدام لغة مماثلة للغة الإنسان، ومن هنا حاجتنا إلى التمييز بين لغة الإنسان وما قد نسميه "لغة" عند الحيوان.
فأما اللغة في أضيق معانيها فقد عرفها ابن جني (942-1002م) بقوله « حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم» ومن هذا نستنتج أن اللغة أصوات وأن هذه الأصوات هادفة إلى التعبير عن أغراض وحاجات قوم/مجتمع ما. وهنا نضع اليد على طبيعة اللغة: الصوتية والقصدية والاجتماعية (إذ هي أصوات يعبر بها أفراد مجتمع ما عن مقاصدهم…).
وأما في أوسع معانيها فاللغة قد تكون صوتا منطوقا أو كلمات مكتوبة أو حركات مرئية أو رموزا أو حتى أحلاما… فهي إذن - وباختصار شديد- كل وسيلة تعبيرية يستخدمها الإنسان داخل مجتمعه بهدف الفهم والإفهام (التواصل والتفاهم).
فاللغة ظاهرة إنسانية/اجتماعية قابلة لأن تدرس من عدة زوايا بناء على طابعها المتنوع، فقد تدرس اللغة –اختصارا- من ستة زوايا كما يلي:
1. الزاوية اللسانية : (Linguistique) وهي تستهدف تشريح اللغة على أربع مستويات: أولها المستوى الفونولوجي (Phonologique) ويقصد تحديد الوحدات الصوتية (الفونيمات Phonèmes) والأنسقة الفونولوجية الخاصة بكل لغة على حدى. وثانيها المستوى الدلاليSémantique)) ويقصد تحديد دلالة الكلمات ومعاني الألفاظ (المورفيمات Morphèmes) التي تتركب منها الجمل داخل لغة ما. وثالثها المستوى التركيبي (Syntactique أو Syntaxique) ويهدف إلى ضبط القوانين والقواعد النحوية والصرفية الإعرابية التي تحكم تركيب الجملة في لغة معينة. و رابعها المستوى التداولي (Pragmatique) وهو يهتم بوظائف اللغة داخل العملية التواصلية وكيفية تداولها داخل الجماعة/المجتمع.
2. الزاوية الفيزيائية (Physique) : وهي تهتم بدراسة الذبذبات أو الموجات الصوتية (Ondes Sonores) المنبعثة من فم المرسل إلى أذن المرسل إليه ، أي دراسة اللغة كفعل مادي خارجي محسوس قابل للملاحظة والتجريب والقياس والتكميم .
3. الزاوية الفيزيولوجية (Physiologique) : وهي تدرس الأحداث الفيزيولوجية التي تطرأ على أعضاء التصويت (Organes de phonation) عند المتكلم وأعضاء الاستماع (Organes d'Audition) عند المستمع على اعتبار أنه ليس للغة أعضاء خاصة في جسم الإنسان تؤدي وظيفتها بل هي تستعير من الجسم أعضاء بواسطتها تلقي الرسالة أو تتلقاها . (من أعضاء التصويت/الإرسال نجد التجويف الفمي والأسنان والشفاه والقصبة الهوائية والحبال الصوتية والرئتين…, ومن أعضاء الاستماع/ الاستقبال نجد الأذنين الداخلية والخارجية والطبلة والألياف العصبية…,أضف إلى ذلك المنطقة الخاصة بالسمع على مستوى الدماغ) .
4. الزاوية السوسيولوجية (Sociologique) : وهي تهتم بوظائف اللغة داخل المجتمع على اعتبار أنها أساس التواصل الاجتماعي وأنها ظاهرة ومؤسسة اجتماعية/جماعية/ مجتمعية، فلا مجتمع دون لغة كما أنه لا لغة دون مجتمع وبالتالي لا مجتمع دون تواصل كما ترى جوليا كريستيفا .
5. الزاوية السيكولوجية (Psychologique) : وهنا ينصب الاهتمام على مختلف العمليات التي تطرأ داخل الدماغ البشري من قبيل: كيفية اكتساب اللغة ، وكيفية الترابط الذي يتم داخل الذهن البشري بين الكلمة ومضمونها أو بين الدال والمدلول ، وكيفية تكون الذات المتكلمة ، وكيفية إنتاج الدلالة المبلغة (الرسالة) و كيفية فك رموزها…الخ.
6. الزاوية الفلسفية (Philosophique) : وهي تلامس كل ما سبق ذكره ولكن ليس فقط بنظرة تأملية-تحليلية- تركيبية جافة بل وبالأساس بنظره نقدية –تقويمية- تقييمية.
هكذا ونظرا لتعقد ظاهرة اللغة وتعدد زاويا دراستها فإننا – منهجيا وتربويا- سنعمل على إدخالها ضمن شبكة علائقية على النحو التالي: أولا علاقة اللغة بالإنسان ، ثانيا علاقة اللغة بالعالم ، ثالثا علاقة اللغة بالجماعة ، رابعا وأخيرا علاقة اللغة بالفكر.
II. علاقة اللغة بالإنسان:
تحضرنا هنا عدة أسئلة نذكر منها على سبيل التمثيل ما يلي: هل اللغة خاصية إنسانية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فبماذا نفسر اختصاص الإنسان وحده بها ؟ ثم ألا يمكن الحديث عن لغة لدى الحيوان ؟ وأخيرا ، ما هي مميزات اللغة الإنسانية بالمقارنة مع ما قد نسميه "لغة" عند الحيوان ؟
جوابا على هذه الأسئلة سنعرض لأطروحتين: أولاهما فلسفية كلاسيكية وثانيهما لسانية معاصرة.
فأما الأطروحة الأولى فنمثل لها بموقف ديكارت Descartes(1596-1650)الذي ينطلق من قناعة مفادها أن الإنسان وحده الكائن الناطق أو بالأصح الكائن الرمزي (Symbolique) الذي يستخدم اللغة المنطوقة/المكتوبة/الحركية للتعبير عن أغراضه ومشاعره وأفكاره… وأساس حضور اللغة (بمفهومها هذا) عند الإنسان هو وجود الفكر لديه ، كما أن علة غيابها عند الحيوان هي افتقاره إلى الفكر. ودليل ديكارت على هذا هو أن الإنسان مهما بلغ به النقص يستطيع استخدام العلامات للتعبير عن أفكاره (كالصم البكم الذين يخترعون علامات وحركات لهذا الغرض) ، في حين أن الحيوان مهما بلغ به من الكمال لا يستطيع استعمال اللغة (فنطق الببغاء مثلا ليس لغة لأنه مجرد تعبير عن انفعال إشراطي) . وبهذا تكون عبارة : "الإنسان حيوان عاقل" مرادفة لعبارة "الإنسان حيوان ناطق" ، إذ أن العقل/ الفكر أساس النطق/ اللغة . فلا لغة دون فكر أو كما قالت العرب «اللغة دالة الفكر».
وأما الأطروحة الثانية فنمثل لها بموقف إميل بنفنيستEmile Benveniste (1902-1976) الذي يستند على نتائج علم الحيوانات (Zoologie) من جهة والسيميولوجيا (Sémiologie) من جهة ثانية ليقر بأن للحيوانات كذلك لغة إلا أنها لا ترقى إلى نفس مستوى لغة الإنسان إذ أنها تختلف شكلا ومضمونا عن لغة الإنسان ، وفيما يلي أدناه مجمل الاختلافات بينهما :
اللغة الإنسانية
|
اللغة الحيوانية
|
صوتية في معظمها
مكتسبة/متعلمة
أساسها التفكير
بديل عن الواقع/المرجع
متعددة المواضيع/المضامين
متطورة ديناميكية
|
غير صوتية(حركية أو إفرازات بيوكيماوية)
فطرية/غريزية
أساسها الانفعال
لا تغني عن العودة إلى الواقع/المرجع
وحيدة الموضوع/ المضمون (الأكل/ الشرب/الجنس/الخطر)
لا متطورة/ستاتيكية
|
III. علاقة اللغة بالعالم:
تطرح هنا عدة أسئلة من قبيل : ما هي علاقة الكلمات بالأشياء ؟ أو ما علاقة الأسماء بالمسميات ؟ أو بوجه أكبر ما علاقة المبنى بالمعنى من جهة وبالواقع من جهة ثانية ؟ وقبل هذا و ذاك ما هو اصل اللغة ذاتها ؟
جوابا على السؤال الأخير سنعرض لما جاء في كتاب "الخصائص" لابن جني ، إذ أنه في سعيه الحثيث صوب الكشف عن مصدر واصل اللغة وقف على ثلاثة مواقف متباينة لم ينتصر لأي منها نظرا لحاجة كل منها إلى مزيد من التوضيح والأدلة المقنعة . ولقد كان ابن جني محقا في تردده بل تريثه هذا إذ أن العلم المعاصر – مع ما حققه من انتصارات هائلة- لا زال يتأرجح بين هذه المواقف الثلاث .
فأما الموقف الأول فهو لشيخ ابن جني (أبو علي الفارسي) وهو يرى بأن اللغة إلهام رباني وهبة إلهية مصداقا لقوله تعالى : « وعلم آدم الأسماء كلها » ، وهذا موقف يعطي الأسبقية في الوجود للأسماء قبل مسمياتها ، بمعنى أن اللغة أقدم من العالم بكل ما فيه من كائنات . إلا أن ابن جني يعطي لهذه الآية تأويلين : أولهما ينتصر لموقف شيخه وثانيهما يعارضه .
«وعلم آدم الأسماء كلها»
التأويل الأول
علم الله آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات
(اللغة من خلق الله)
التأويل الثاني
أقدر الله آدم على التواضع على اللغة
(اللغة من صنع الإنسان)
وأما الموقف الثاني فهو موقف أغلب أهل النظر ( أهل العقل) وهو يرى بأن اللغة ناتجة عن اتفاق وتواضع حكيمين أو أكثر على منح شيء ما اسما معينا يخصه وحده ويتميز به عن غيره، بحيث أنه متى سمع هذا الاسم علم أن المراد به هذا الشيء ذاته دون غيره. ولكن كيف تم التواضع والاتفاق دون أو قبل وجود اللغة ؟
وأما الموقف الثالث فهو موقف بعض أهل النظر، وهو يذهب إلى أن أصل اللغة إنما هو تقليد ومحاكاة أصوات ما في الطبيعة من كائنات (كحفيف أوراق الشجر وخرير المياه وزئير الأسد…الخ) . إلا أن لغتنا ليست مجرد أصوات حاكينا فيها الأصوات الطبيعية بل هي كذلك مضامين ومعاني ، فمن أين استوحينا إذن هذه المضامين والمحتويات المعرفية والمعاني ؟ ثم كيف يجوز أن ننحدر بالإنسان – وهو أعلى المخلوقات- ليحاكي أصوات باقي الكائنات وهي دونه مستوى ورقيا وتعقيدا ؟
هذا بالنسبة لأصل اللغة أما عن علاقة الكلمات بالأشياء فسنعرض لأطروحتين : أولاهما لفرديناند دي سوسيرFerdinand de Saussure (1857-1913) وثانيهما لإميل بنفيست (1902-1976)
يعرف دي سوسير اللغة بأنها « نسق عضوي منظم من العلامات » وفي تعريفه للعلامة يقول « هي ذلك الكل المتألف من الدال والمدلول » حيث أن الدال متوالية صوتية (اللفظ) والمدلول تصور ذهني (المفهوم) والعلامة هي الحصيلة الناتجة عن الجمع بين الدال والمدلول . أما العلاقة الرابطة بين الدال والمدلول –عنده- فهي علاقة اعتباطية (اصطلاحية-اتفاقية) ناتجة عن التواضع والاتفاق فيما بين الناطقين بهذه اللغة أو تلك .
شجرة
الدال/ Signifiant
المبنى/اللفظ
المدلول/Signifié
المعنى/المفهوم
الدليل اللساني/العلامة اللغوية ثنائية الأبعاد
عند فرديناند دي سوسير
(F. de Saussure)
Signe linguistique à double dimensions
وأما بنفيست فيذهب إلى أن العلامة اللغوية ثلاثية الأبعاد ، إذ أنه يضيف إلى الدال والمدلول ما أسماه بالمرجع أو الحادث (Référent) وهو الشيء المشار إليه في الواقع ، كما أنه يرى بأن علاقة الدال بالمدلول علاقة ضرورية-طبيعية و أن الاعتباطية هي علاقة الدال بالمرجع . بمعنى أن منح اسم ما (الدال) إلى شيء ما في الواقع(المرجع) يتم بالاتفاق والتواضع والاصطلاح ، في حين أن سماع هذا الاسم يوحي بالضرورة إلى تصور أو تمثل ذهني معين لا غيره (المدلول) .
الدليل اللساني أو العلامة اللغوية ثلاثية الأبعاد عند إيميل بينفنيست
(E.Benveniste)
المدلول/Signifié
علاقة اعتباطية
علاقة ضرورية
المرجع Référent
الــدال / Signifiant
IV. عـــلاقة اللــغــة بالجــمــاعــة :
وهنا نستحضر سؤالا كبيرا وهو: ما هي مختلف الأدوار والوظائف التي تؤديها اللغة داخل الجماعة/المجتمع ؟
يقول الأستاذ أعراب الحبيب: « اللغة ظاهرة إنسانية بالدرجة الأولى. وهي قائمة على أسس فيزيولوجية ونفسية واجتماعية وفكرية ، ومن وظائفها الأساسية كونها أداة للتواصل والتفاهم بين البشر وبينهم وبين محيطهم ، ثم كونها وسيلة أساسية لفهم ومعرفة الواقع بشموليته وأيضا أداة معرفة ذاتها » فاللغة إذن متعددة الوظائف: إذ بها يستطيع المرء إنتاج المعرفة وتبليغها والمحافظة عليها ، وبها يستطيع التعبير عما يجيش بدواخله من مشاعر وأحاسيس ، وبها يستطيع التواصل مع الإنسان ومع الطبيعة ومع الله ، وبها يستطيع تسمية مختلف الأشياء لتمييزها عن بعضها البعض بل وحتى منح الوجود للكائنات ، وفي هذا يقول جورج جوسدورف Georges Gusdorff(1912) : «ما لا اسم له لا وجود له » ، وبها يستطيع القفز على الزمان والمكان وإحلال اللاواقعي مكان الواقعي والفوق طبيعي مكان الطبيعي ، وبهذا المعنى نفهم قولة بيير جانيPierre Janet (1859-1947) :« الجملة الفعلية جملة خلاقة » ، وبها يستطيع الإنسان ضمان امتداد شخصيته واستمرار وجودها خارج حدود جسمه…الخ . فاللغة إذن فعل وعمل إجرائي بل وأساس فعل الكينونة والوجود .
ومن هذا كله نستنتج بأن اللغة أداة تقسيم الواقع وتصنيف الكائنات وتسميتها للإبانة عنها ، إذ أنها كما يقول ابن جني :« تغني عن إحضار الأشياء إلى مرآة العين » ، كما أنها أداة تأثير سحري-إيحائي على الإنسان والعالم ، وأنها أداة التواصل فيما بين الإنسان والإنسان ، ثم بين الإنسان والطبيعة , وبين الإنسان وربه ، وهي كذلك أداة دراسة ذاتها حيث تصبح الوسيلة والموضوع في ذات الوقت ...
وقد حاولت النظرية التواصلية (La Théorie Communicative) مع رومان جاكوبسون Roman Jackobson (1896-1983) لم شتات هذه الوظائف في ستة , ربطت كل واحدة منها بعامل من عوامل التواصل اللفظي على الشكل الآتي :
المرسل (الوظيفة الانفعالية)
الرسالة (الوظيفة الشعرية)
المرسل إليه (الوظيفة التأثيرية)
السنن (الوظيفة الشارحة)
السياق (الوظيفة المرجعية)
الاتصال (الوظيفة الفاتية)
V. علاقة اللغة بالفكر:
وتحت هذا العنوان نطرح الأسئلة التالية: أيهما أساس وجود الآخر: اللغة أم الفكر؟ أو لأي منهما الأسبقية في الوجود: للفكر أم للغة ؟ ثم هل هناك لغة دون فكر أو فكر دون لغة ، أم أن اللغة والفكر معا متلازمان إذ لا وجود لأحدهما في استقلال عن الآخر؟…
للجواب على هذه الأسئلة سنعرض لموقفين: أولهما فلسفي كلاسيكي وثانيهما لساني معاصر.
فأما الموقف الأول فيمثله كل من ديكارت وبرغسون Henri Bergson (1859-1941)، وشعاره هو أن "لا لغة دون فكر". وقد مر معنا أعلاه موقف ديكارت من هذه الإشكالية أثناء الحديث عن علاقة اللغة بالإنسان . إذ أنه يرجع أساس وجود اللغة لدى الإنسان إلى وجود الفكر لديه وعلة غيابها عند الحيوان مرده إلى افتقاره إلى الفكر، إذ أنه لو كانت له أفكار لعبر لنا عنها مثلما يعبر لنا عن انفعالاته ، فاللغة إذن –حسب ديكارت- مستقلة عن الفكر السابق على وجودها ، كما أنها مجرد أداة للتعبير عنه . وإذا كان برغسون ينخرط في هذا التصور الأداتي للغة (Instrumentaliste) فإنه يختلف عن ديكارت في كونه يعتبر اللغة – فوق كونها مجرد أداة- غير قادرة إذ هي قاصرة حتى على التعبير عن الفكر مستدلا بكوننا غالبا ما نحس بقصور اللغة عن الإحاطة بمجمل مشاعرنا وتصويرها بصدق و دقة و أمانة.
وأما الموقف الثاني فيمثله عالمان معاصران وهما جوليا كريسيفا Julia Kriesteva (1936) وجان بياجيJean Piaget ، وشعاره أن "لا فكر دون لغة" أو بالأصح " أن اللغة هي الشكل الوحيد لوجود الفكر" . إلا أن مفهوم اللغة هنا أوسع مما يتصوره ديكارت وبرغسون ، إذ أن اللغة تتضمن كل أصناف التعبير الإنسانية الشعورية منها واللاشعورية : من أصوات منطوقة وكلمات مكتوبة وحركات مرئية وفنون تشكيلية وأحلام… الخ . ولهذا فإن اللغة والفكر وجهان لنفس العملة إذ لا يمكن الفصل بينهما ، فهما متلازمان كتلازم صفحتي الورقة الواحدة (كما يرى دي سوسير) ، وبالتالي فلا استقلالية للفكر على اللغة ولا للغة على الفكر كما أنه لا أسبقية لهذا على تلك أو العكس . فإذا كانت اللغة هي جسم الفكر-كما تقول كريستيفا- فإن الفكر هو روح اللغة ، ومن تم فلا حياة لأحدهما في غياب الآخر (فكلامنا تفكير خارجي وتفكيرنا كلام داخلي) .
هكذا إذن نخلص من هذا الدرس إلى عدة نتائج نوجز أهمها فيما يلي : اللغة خاصية إنسانية وظاهرة اجتماعية بامتياز ولا يمكن الحديث عن لغة لدى الحيوان أو العقول الإلكترونية إلا على سبيل المجاز. فهي وسيلتنا في تقسيم العالم إلى عناصر وأجزاء والتمييز فيما بينها عن طريق منح كل منها اسما يخصه ، كما أنها أداتنا الأولى والأساسية في التواصل مع الله والإنسان والطبيعة ، بالإضافة إلى كونها وسيلتنا في استيضاح أفكارنا والإبانة عن مشاعرنا للذات وللآخر، ومن تم فهي وسيلتنا في معرفة دواخلنا ومحيطنا الطبيعي والإنساني . ولكن إذا كانت للغة علاقة بالمعرفة أفلا يجب علينا أن نتساءل عن ماهية المعرفة؟
ردودكم مهمة فلا تبخلوا علينا
sabir