Created by Crazyprofile.com

   
  مركز الأقسام التحضيرية للأداب
  الخطاب الشعري ومنهجية التحليل بالمستويات
 
الخطاب الشعري ومنهجية التحليل بالمستويات
عند "محمد مفتاح"
ذ. إبراهيم أسيكار
    توطئة .
 
   نجم عن التطورات الكبيرة التي شهدتها العلوم الإنسانية الغربية منذ أوائل القرن الماضـي،
شحذ آليات النقد الأدبي العربي الحديث ، وذلك في إطارالمثاقفة الحاصلة بين الفكريـن
العربي و الغربي عن طريق الترجمة التي نشطت في الوطن العربي بشكل ملفت منذ النصف
الثاني من نفس القرن .وقد تولّد عن ذلك هجرة مجموعة من المفاهيم  و المناهـج
النقدية الغربية إلى المجال النقدي العربي ، الذي أضحى مسرحا لمناهج نقدية متشعّبة الآفـاق
والطرائق.
     ويمكن رصد طابع هذه المثاقفة في المنجز النقدي العربي الحديث، من خلال تأمل مجموعة
من الدّراسات النقدية العربية الحديثة المنشغلة بالخطاب الشعري العربي القديم، وفق منطلقات
تمتاح ممّا هو لساني أوسميولوجي أو تداولي أو أنتربولوجي ...
    ويعزى تنوّع هذه المنطلقات النقدية ، إلى تعدّد إمكانات التحليل التي يتيحها الخطاب الشعري
العربي القديم ، والذي يأبى أن تختزل إمكاناته الجماليّة في شخصية قائله أو في الشروط التي
ولّدته . ويرفض فضلا عن ذلك،  التحوّل إلى ذيل تستأنس به العلوم الإنسانية بما فيها التاريخيـة
والاجتماعية والنفسية و اللسانية... ، ولا يكاد هذا الخطاب الشعري يعترف إلا بوصفه
بنية لغويّة ومعرفيّة وجماليّة تفهم أنساقها في إطار ما هو إنسانيّ و جماليّ  بمعناهما العام .
   لقد كانت نتيجة ما سبق،أن صارالمشهدالنقديّ العربيّ الحديث موزّعا بين ثلاثة تصورات،يعمل
أوّلها على تبني المفاهيم و المنهاجيات النقدية الغربية على علاّتها بعيدا عن أدنى حـسّ
نقدي يراعي الشروط الفكرية و الفلسفية والإديولوجية التي أفرزتها . فيما يعمل ثانيها على
ضرب عرض الحائط بالمنهاجيات الغربية ، مرتميّا في أحضان الخطاب النقدي
والبلاغي العربي القديم، يقارب النصوص الشعرية بمفاهيمه و طرائقه. وأمام تعصّـب
وتطرّف التصورين السابقين، سعى ثالث هذه التصورات إلى إقامة نوع من التوافق مـع
ما هو عربي قديم وما هو غربي مستقدم .
    تأسيسا على ما سبق، سننشغل في هذه القراءة  النقدية بموقع الأستاذ محمد مفتاح بيـن
التصورات النقدية الثلاثة السابقة ، متسائلين عن مدى وجاهة تحليله النقدي من خـلال 
  منهجية التحليل بالمستويات التي تبناها في كتابه " تحليل الخطاب الشعري ،استراتيجية التناص " الذي كرّسه لتحليل رائية الشاعر الأندلسي " ابن عبدون " .
1 : لمحة عن المشروع النقدي للأستاذ  محمد مفتاح .
        يسوّغ لنا التراكم النقدي الذي حققه الأستاذ محمد مفتاح منذ أواخر سبعينيات القرن
      الماضي وبداية ثمانينياته ، الحديث عن ملامح وتجليات مشروع نقدي منهاجي واضح المعالم.
سمة هذا المشروع هي الخصوبة النظرية الناجمة عن  الغنى الإحاليّ الذي يرمي إلى الإحاطـة
بالمستجدات النظرية و المنهاجية الغربية المهتمة بتحليل الخطاب عامة . هذا مع الحرص علـى
تقديم  دراسات تطبيقية هي بمثابة اختبارللتصورات النظرية  . وقد ظل الأستاذ محمد مفتاح وفيا لهذا النهج العلميّ  في أعماله النقدية التي نذكّر ببعضها تعاقبيا بحسب ما اطلعنا عليه على النحو الآتـي:
* في سمياء الشعر القديم ( دراسة نظرية وتطبيقية ) سنة 1982 .
* تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص ) سنة 1985 .
* دينامية النص ( تنظير و إنجاز ) سنة 1987 .
* مجهول البيان سنة 1990 .
* التلقي و التأويل ( مقاربة نسقية ) 1994 .
* التشابه والاختلاف ( نحو منهاجية شمولية ) سنة 1996 .
* الخطاب الصوفي ( مقاربة وظيفيّة ) سنة 1997.
* المفاهيم معالم ( نحو تأويل واقعيّ ) سنة 1999 .
* مشكاة المفاهيم ( النقد المعرفيّ و المثاقفة ) سنة 2000 .
هذا إلى جانب دراسات نقدية متفرقة، نشرها في منابر ثقافية وطنية و أجنبية نذكـر منهـا:
* الكتابة الصوفية، ماهيّتها و مقاصدها ( مجلة كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط عـدد 2،
    سنة 1977 ).
* ابن رشد و مدرسته في الغرب الإسلامي ( أعمال ندوة : ابن رشد ومدرسته في الغرب
   الإسلامي، كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط سنة 1979 ).
* الجهاد والاتحاد في الأدب الأندلسي ( مجلة عالم الفكر المجلد 12 العدد الأول ، أبريل ، مايـو
    يونيو، سنة 1981. )
فضلا عما نشره من دراسات متفاوتة الاهتمام في مجلة "علامات " السعودية و " فكر ونـقد"
المغربية و " فصول " المصرية، وغيرها من المنابر الثقافية بما فيها الملاحق الثقافية لبعض
الجرائد الوطنية المغربية .
    وبناء على هذا التراكم النقدي الذي حقّقه الأستاذ مفتاح، نتبيّن مسارا نقديا طويل النفس، يتضح
طابعه المشروعي في اعتماد دراساته اللاحقة على مكتسبات الدراسات السابقة عليها،على نحو
تتبادل فيه عمليّة التشارح قصد تعضيد البؤرة التي يصدر عنها المشروع برمّته في شكـل
متوالية من الترابطات المتلاحمة. ومن أبرز المؤلفات النقدية التي استوقفها الخطاب الشعـري
العربي القديم في هذا المشروع ، كتاب ( في سمياء الشعر القديم ) الذي حلل فيه الأستاذ مفتـاح
قصيدة لأبي البقاء الرّندي  التي مطلعها :
                لكل شئ ـ إذا ما تم ـ نقـصـان             فلا يغرّ بطيب العيش إنسـان
ثم كتاب ( تحليل الخطاب الشعري ) الذي خصّه المؤلّف لتحليل قصيدة ابن عبدون الأندلسـي
التي مطلعها :
                الدّهر يفجع بعد العين بالأثـر             فما البكاء على الأشباح و الصور
وأخيرا كتاب ( التشابه و الاختلاف ) الذي كرّس المؤلف جزءا منه لتحليل قصيدة " النبيّ
المجهول"  للشاعر التونسي " أبو القاسم الشابي" ، التي مطلعها :
                أيّها الشعب ليتني كنت حطّبـا             فأهوي على الجذوع بفأسي
     ولعل ما يوحّد تحليل الأستاذ مفتاح لهذه النصوص الشعرية، هو مراهنته منذ البداية على ما
هو حداثيّ من المناهج النقدية ، بما فيها اللسانية و السميائية ومنجزات العلم
المعرفي و التداوليات. ومما أفضت إليه رغبة الأستاذ مفتاح  فـي
 التجريب و التحديث ، صعوبة تصنيف مشروعه النقدي ضمن هذا التوجّه النقدي أوذاك . فقـد
صنّفه بعض الدارسين ضمن نقاد التوجّه البنيوي السميولوجي المعتمد على " المبادئ الأساسية
للنظرية البنيوية والاستفادة من الأبحاث اللسانية و البويطيقية و السميولوجية المعاصرة،
والانطلاق من النص الشعري في حد ذاته، وتركيز الاهتمام على بنيته اللغوية و الرّمزية،
والبحث عن العلاقات و القوانين الباطنية التي تحكمه " 1 . فيما صنّفه دارسون آخرون ضمن
نقاد المقاربة العبر نقدية و العبر ثقافية، التي تعمد إلى " بناء المعرفة بالنصوص و الخطابات
في تكوّنها وشعريتها وشروط تداولها و تلقيها ، وفي موقعها من السياقين النصي النسقي
والثقافي الرمزي المندمج " 2. ويعزى هذا التباين في التصنيف و النمذجـة
إلى شساعة الأفق النظري عند الأستاذ محمد مفتاح ، الذي ما انفك يخوض منذ محاولاته النقديـة
الأولى في قضايا نقدية حداثيّة منها : تحليل الخطاب / التناص / الدينامية / الانسجام / النقد
المعرفي... ، والتي استهدف بها إنتاج معرفة حداثيّة أوسع بالنصوص المدروسة ، قصد
الوقوف على العناصر البانية لقاعها المعرفي  وعمقها الفني الجمالي .
 2 : المنهج النقدي من خلال كتاب " تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص) .
           2 ـ 1 : المعطيات النظرية  
        يعتبر كتاب ـ تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص ) ـ الحلقة الثانية ضمن
المشروع النقدي للأستاذ مفتاح، وهو في عمقه محاولة لتوسيع وتنميّة ما سبق إيراده في كتاب
ـ في سمياء الشعر القديم ـ . لذا نسجل أن الكتاب قيد التأمل والذي يكشـف عن مرامـي
صاحبه منذ عنوانه ، استمرار وتكريس لرؤية نقدية حداثيّة توسّع دائرتها عبر فعل التشارح                                                  
الذي يعكسه اعتماد الأستاذ مفتاح في مؤلّـفه طي القراءة ، على المصطلح اللساني و السميائي
مع الاحتفاظ بالخطاب الشعري الأندلسي كموضوع للتطبيق . ويبقى ما هو جديـد
في هذا المؤلف ، هوالتأكيد على التناص كاستراتيجية تسعف في التحليل .كما جاء الاستهلال الذي
صدّر به المؤلف كتابه ، دالا عن مقاصده التحديثية . وهو عبارة عن قولة للإمام أبي حنيـفـة
النعمان يقول فيها: " هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر أحدا عليه ، ولا نقول يجب على أحد قبوله
بكراهية " 3 . ونتصوّر أن اختيار هذه القولة دون سواها ، يتعلق بما عرف به
أبو حنيفة النعمان من عقلية متفتّحة بعيدة عن التزمّت و المغالاة و التطرّف المذهبي . ويمكن
اختزال مرامي استحضار الأستاذ مفتاح لهذه القولة في :
* ضرورة التعامل مع محتوى الكتاب بوصفه اجتهادا نقديا لاغير .
* الرغبة في تسويغ التوجه الحداثي لمضامين الكتاب والمشروع النقدي بصفة عامة .
* قصر ما جاء في الكتاب من أفكار على المؤلّف دون الرغبة في فرضها الغير.
       لكن رغم كل هذا، نلحظ إفصاح عمق مضامين الكتاب عن سجال نقديّ غير معلن أراد من
ورائه المؤلف تقديم محاولته النقدية ،على أنها محاولة نقدية مغربية لا تقل تجريبية عن تجـارب
حداثية عربية أخرى .  كتجارب : الدكتور كمال أبو ديب و الدكتور جابر أحمد
عصفور و الدكتورة يمنى العيد و الدكتور عبد الله محمد الغدامي ... فضلا عن الوسم غير المعلن
 لكل الاتجاهات النقدية العربية والغربية المهتمة بالخطاب الشعري بالقصور،
وذلك بسبب عجزها عن تأسيس نظرية نقدية عامّة وقادرة على الإحاطة بكل مستويات الخطاب
الشعري. يقول الأستاذ مفتاح : " إنّ أيّ مدرسة لم تتوفّق إلى الآن في صياغة نظرية شامـلـة
و إنّما كل ما نجده هو بعض المبادئ الجزئية و النسبيّة التي إذا أضاءت جوانب بقيت أخـرى
مظلمة "4. غير أن هذا الكلا م الذي يسوقه الأستاذ مفتاح ، يبقى مجرّد استباق خطابي يـراد
من ورائه إضفاء المشروعية على الهاجس الانتقائي والتركيبي الذي سيطغى على القسم
النظري من الكتاب . لهذا نجده يبادر إلى تسويغ انتقائيته التركيبية بقوله: "إن الأخذ
من نظريات مختلفة يحتّم الانتقائية ، ولكنّه لا يؤدي إلى التلفيقية بالضرورة ، لأنّ آفة الانتقـائية
لا تصيب إلاّ من كان ساذجا مؤمنا إيمانا أعمى بما يقرأ " 5.
     وعلى هذا الأساس من القول بمشروعية الانتقاء والأخذ من الآخرين ، سيقترح الأستاذ مفتاح
آلية نقدية ذات طابع تعدديّ ، ترمي إلى الإحاطة بالنص الشعري ّ بعد تجميع كافة مستوياتـه
وكوكبتها على شكل منظومة دينامية تخدم المغزى العام للنص . وتتألّف هذه المنظومة مـن
مستويات: التباين و التشاكل ، الصوت و المعنى ، التركيب بشقيه النحوي و البلاغي ، ثـم
التناص و التفاعل والمقصدية . وقبل البرهنة على حضور هذه المستويات في قصيدة ابن
عبدون ، بدأ الأستاذ مفتاح بمساءلة مجموعة من النظريات اللسانية الغربية المهتمة بالخطـاب
الشعري وذلك بعد تقسيمها إلى ما يلي :
1) التيار التداولي:
وركز فيه الأستاذ مفتاح على من يعرفون بفلاسفة مدرسة أكسفورد ، وخاصة ( SEARLE)
فيما يعرف عنده بنظرية الأفعال الكلامية، وهو في نظره فيلسوف وضعـيّ
يقدّس العلم ويرفض ما سواه، وهو نتيجة لذلك يدمّر كثيرا مما بناه نقاد الشعر.
2) التيار السميوطيقي :
و استحضر الأستاذ مفتاح ضمن هذا التيار ثلاثة اتجاهات أساسية هي:
أ‌)          اتجاه مدرسة ( GREIMAS ) الذي يمكن أن يفيد محلل الخطاب الشعري بنظامه العامليّ
وهو مع ذلك، يبقى في نظر الأستاذ مفتاح نظاما قاصرا، لعجزه عن مقاربة وتحليل كافة
     الخطابات الأدبية.
ب‌)     جماعة " مو" البلجيكية ( GROUPE MU ) ، ومأزقها في نظر الأستاذ مفتاح  يتمثل
في عدم قدرة بلاغييها على الحسم في القوانين المميزة للخطاب الشعري . إضافة إلى عدم
وضوح حدود الشعر والنثر عندهم.
ج) اتجاه " ميكائيل ريفاتير " ( . RIFFATTERRE   M) ، والذي يؤاخذه الأستاذ مفتـاح
     على انبهاره اللامشروط بالمعالجة السميائية ، واختزاله الخطاب الشعري في اللعب
     بالكلمات و التناص ، فضلا عن خلطه بين الشعر وكافة الخطابات التخييليّة .
3 ) التيار الشعري:
ضمن هذا التيار ناقش الأستاذ مفتاح كلا من" جون كوهن " ( J. COHEN) و " جان مولينو"
J. MOLINO) و " جويل طامين " (J. TAMINE )  . فبالنسبة ـ لجون كوهن يؤاخـذه
الأستاذ مفتاح على قصر الخطاب الشعري على الاستعارة في كتابه " بنية اللغة الشعريـة"
LA  STRUCTURE  DE LA LANGUE  POETIQUE ) . أما بخصوص
ـ جان مولينوـ و ـ جويل  طامين ـ فيسجّل الأستاذ مفتاح ما في كتابهما " مدخل للتحليل اللساني
للشعر "  ( INTRODUCTION A L ANALYSE LINGUISTIQUE DE LA
POèSIE) من اضطراب و انتقائية بسبب تعصبهما للسانيات.
       توضيحا منه لتصوّره البديل، يبدأ الأستاذ مفتاح بالحديث عن المستوى المعجمي، الـذي
اعتبره بؤرة أي خطاب شعري . رافضا النظر إليه كما لو كان قائمة من الكلمات المعزولة التـي
تتوسل لتحديد الحقول الدلالية ، استنادا إلى عمليات إحصائية تعزل مستويات الخطاب الشعري
بعضها عن بعض .وإمعانا منه في إبراز قيمة الجانب المعجمي في الخطاب الشعري ،استحضر
الأستاذ مفتاح مفهوم التشاكل ( ISTOPIE ) ، الذي يتيح للمحلّل الوقوف على قيمة رمزيـة
تشاكل الكلمة و الصوت وكيفية التلاعب بهما .
    ففي ما يهم الأصوات، حاورالأستاذ مفتاح عددا من الآراء الفلسفية و البلاغية المهتمة بها،
متبنيّا الرأي القائل بالقيمة التعبيرية للصوت،داعيّا إلى الأخذ بعين اعتباردلالات الأصوات في
تحليل الخطاب الشعري. أما فيما يخص المستوى التركيبي، فقد قسمه الأستاذ مفتاح إلى
ما هو نحوي وما هو بلاغي ، رافضا النظر إلى الجانب النحوي في الخطاب الشعري علـى
أنه محصّلة لمنطق اللغة فحسب. على أساس أن المعنى الشعري محكوم في نظره
بزيادة أو نقص المبنى اللغوي . أما الجانب البلاغي فيلفتنا فيه تبئير الأستاذ مفتاح لدور
الاستعارة في الخطاب الشعري ، نلحظ ذلك في استحضاره لمجموعة من الاتجاهات الغربية
المهتمة بالاستعارة دون سواها من المكونات البلاغية الأخرى كالتشبيه والكناية مثلا.
   وأمام تعالق مستويات التشاكل والصوت والمعنى والمعجم والتركيب في الخطاب الشعـري،
سيقترح الأستاذ مفتاح التناص استراتيجية و آلية قادرة على جمع كافة مستويات الخطـاب
الشعري.على أساس أن التناص هو" بمثابة الهواء والماء والزمان والمكان للإنسان، فلا حياة
له بدونهما ولا عيشة له خارجهما " 6 . وتحديدا منه لفهمه الموسّع للتناص ، يبادر الأستاذ
مفتاح إلى تحديد مفهوم النص أولا ، مشيرا استنادا إلى كل من " براون " ( BROWN  )
و " يول " ( YULE )، إلى أنه " مدوّنة حدث كلامي ذي وظائف متعدّدة " 7. فيما يعني
التناص " تعالق نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة " 8 . وقد استوحى الأستاذ مفتاح
هذا التحديد ، مما أثير من نقاشات بخصوص التفاعلات النصية في النظرية النقدية الغربية
المعاصرة. وفي هذه النظرية تم توسيع دائرة التناص باكتشاف آلياته ومصادره وميادينـه،
فأمكن الحديث عن تناص داخلي وخارجي أو ضروري و اختياري أو واجب و اعتباطي.
كما التفت الأستاذ مفتاح وبنفس التحمّس  لما هو غربي حداثي ، إلى دور المقصدية في
إنتاج الخطاب الشعري، و قيمة التفاعل داخله بين القراء ومستوياته أثناء تلقيه.
      2 ـ 2 : المعطيات التطبيقية 
   عمدالأستاذ مفتاح إلى تظهير تصوراته النظرية السابقة ،بتحليل قصيدة أندلسية للشاعرـ ابن
عبدون ـ  التي يرثي فيها ـ بني المظفّر الأندلسيين ـ . وقد قسّم الأستاذ مفتاح هذه القصيدة إلى
ثلاث بنى هي:
* بنية التوتر
* بنية الاستسلام
* بنية الرجاء و الرهبة
راصدا ما يختلج هذه البنى من إحساس غنائي وملحمي و درامي. وقد كان الأستاذ مفتاح فـي
تقسيمه هذا، صدى للغربيين الذين قسّموا شعرهم إلى غنائي و ملحمي و درامي. وعمـل
الأستاذ مفتاح بعدها على توحيد البنى الثلاث للقصيدة بجملة ( الدّهر حرب ) بوصفها جملة
نواة تختزل القصيدة برمّتها.
    ولا يخفى ما في مثل هذا النهج الإجرائي التي تبناه الأستاذ مفتاح، من  شططيّة
تتنافى والنهج العلمي الرصين. على أساس أن الخطابات الشعرية تختلف باختلاف شروط
إنتاجها وتلقيها داخل الثقافات التي تفرزها ، وليس من الضروري أن تتماهى في شكل
نسخة واحدة. ومما انتهى إليه نتيجة للثلاثية البنيوية التي سطّرها للقصيدة،هو أن  الحـس
المأساوي الذي يصدر عنه الشاعر، جعله يرى أن الإنسان محكوم عليه بمصير محتوم
بات معه الدهر محاربا فاجعا لكلّ الناس . فقبل الإسلام كان عادلا في عمله لأنه فتـك
بالظلمة، كما كان عادلا بقضائه على الأمويين، بيد أنّه كان جائرا حين فتك بالعلويين
والعباسيين . ومن كل هذا ، خلص الأستاذ مفتاح إلى أنّ ابن عبدون ، سعى إلى تبرير ما
ألمّ ببني المظفّر الأندلسيين ، وكيف أن الأيام مراحل لها بداية ووسط ونهاية . ومن ثم
يغدو فعل الدهر بالناس فرصة للاتعاظ واستخلاص العبرة . وآلية ابن عبدون في التعبيـر
عن هذه الفكرة هي التناص،الذي مكّنه ـ فيما يرى الأستاذ مفتاح ـ،من التأريخ بطريقـة شعرية  على غرار صنيع الكتابات التاريخية التقليدية . يظهر هذا في استحضار ابن
عبدون في قصيدته بطريقة ضمنية لمجموعة من الأخبار و الأحداث التي حصلت بيـن
الملوك والقبائل والأشخاص فيما قبل وأثناء وبعد الإسلام.
    تلك هي الخلاصة التي انتهى إليها الأستاذ مفتاح في تحليله لرائية ابن عبدون. بيد أننا لو
أنعمنا النظر في الجانب التطبيقي الذي أوحى بهذه الخلاصة في ثنايا الكتاب طيّ القراءة،
لألفيناه أضعف بكثير مما كنا نتوقع حين قراءتنا للجانب النظري ، الذي يبدو أكثر تحمّسـا
مقارنة مع التطبيق العمليّ، الذي عمد فيه الأستاذ مفتاح إلى تحليل القصيدة بيتا بيتا مـع
 افتراض عناصر اتساق لفظية ودلالية يحافظ بها للقصيدة على انسجامها. ونرى في
هذه الطريقة التحليلية أولى ملامح تعثر البديل النقدي و المنهاجي الذي وعدنا به الأستاذ
مفتاح . إذ سعى بهذا النهج التحليلي إلى قول كل شئ دفعة واحدة في البيت الشعري
الواحد إرضاء للمستويات التي سطّرها مسبقا للخطاب الشعري عامة. ونتيجة لهذا يبـدأ
تحليل البيت الشعري بالوقوف على طبيعة أصواته، مستخلصا وبشكل متكرّر دلالـة
الأصوات الحلقية على الحزن والزجر، فيما تأتي أصوات حروف الإطباق للدلالة على
الفخامة و الضخامة و الرّفعة و السموّ، وأكثر من هذا يعني الاشتراك في الأصـوات
اشتراكا في المعاني . ونحسب أنّ الأستاذ مفتاح شأنه في هذا شأن أغلب النقاد الحداثيين
العرب ، قد قدّم خلاصاته جاهزة لكي يدعم بها تأويله للقصيدة ، دون أن يبرّر لنا بداية أين
تستمدّ القيمة التعبيريّة للأصوات مشروعيتها ؟ وكيف يمكن للسمع أن يكون مرشدا
وكاشفا عن رؤية ومقاصدالشاعر؟ ومن له الأولوية والحظوة في توجيه الآخر داخل البيت
الشعري ، أهو المستوى الدلالي أو الأصواتي ؟ ومما زاد منهجية الأستاذ مفتاح تمحّـلا،
رصده في المستوى المعجمي لبعض الأبيات ، كيفية تلاعب الشاعر بالكلمات
واستحضاره لأسماء أعلام سيعمد الأستاذ مفتاح إلى تصحيفها قصد الخروج منها بمـا
يدعم تأويله العام للقصيدة . فقد أخضع الأستاذ مفتاح بعض أسماء الأعلام في القصيـدة
للاشتقاق ، مخالفا بذلك النحاة العرب القدامى الذين رأوا أن اسم العلم اسم جامد لا صلـة
له بالاشتقاق ولو كان في أصله وقبل نقله إلى العلميّة اسما مشتقا. ومع هذا اشتقّ الأستـاذ
مفتاح من الاسم ( جرهم ) في البيت العاشر من القصيدة صيغة ( رجل جرهام ) ومن اسم
( يزدجرد ) في البيت التاسع عشر من القصيدة صيغ ( يزدرد ) و ( زجر ) و ( يجـرّد)
ومن اسم ( رستم ) في البيت العشرين صيغت أسماء ( رسم ) و ( روسم ) و ( سمّ ). كما
طال تصحيف الأستاذ مفتاح بعض الأفعال في القصيدة، مثل ( بلّغت ) الذي صار
( بلّعت ) و ( اختزلت ) الذي صار ( اختزنت ). ونحسب أن مثل هذا النهج النقدي نهـج
مسرف و مفرط ، جاء لإضاءة قصيدة ابن عبدون، فإذا به يحجبها ويعتّمها بسبب تمحّل
التحليل ومغالاة التأويل وتلفيقيّة المنهج الذي يبدو هجينا، فلا هو تاريخي اجتماعي خالص
ولا هو بنيوي محض ولا هو سميولوجي وتداوليّ بحت . ومن المفارقات الأساسية التي
أفضت إليها هذه الهجنة المنهجية ، استثمار الأستاذ مفتاح في تحليله لسميائيات
GREIMAS ) التي سبق أن انتقدها في القسم النظري من الكتاب. ولـنـا أن نتساءل
بداية عن مدى مصداقية الانتقادات التي وجّهت لـ ( GREIMAS ) وغيره من السميائييـن
الغربيين، أليس الغرض من وراء الطّعن في كلّ هؤلاء نهج سبيل " خالف تعرف ". فرغم
انتقاده لـ ( GREIMAS ) ، جاء تحليل الأستاذ مفتاح لقصيدة ابن عبدون زاخـرا
بمربّعات (GREIMAS ) ونظامه العامليّ . هذا مع أنّ سميائيات ( GREIMAS ) فيما
نعلم ، جاءت أصلا لتحليل النصوص الأدبية السّردية الحكائية وليس الشعرية . بـل إنّ
GREIMAS ) نفسه كان في سميائياته عالة على " فلاديمير بروب"(VLADIMIR
PROPPE ) في تحليله المرفولوجي للخرافة الشعبية الروسية . من هنا أيعود تبني
الأستاذ مفتاح لسميائيات ( GREIMAS ) إلى شهرتها و اتساع انتشارها ؟ أو إلى قابليـة
قالبها المنطقي للتطبيق على النص الإبداعي المكتمل بنية ودلالة ؟ ثم ألا تطرح قصيدة ابن
عبدون بحجمها الكبير مشكلات وصعوبات أمام المعالجة السميائية ؟ ثم ألم يسقط الأستاذ
مفتاح بتبنيه لسميائيات ( GREIMAS ) في مطبّ العلمية التي عابها على " سورل "
SEARL ) . وعلى النحو نفسه سينتقد الأستاذ مفتاح " جون كوهن " ( J  COHEN)
في قصره الخطاب الشعري على الاستعارة ، وتبئيره هو لنفس المكون البلاغي نظريـا
وتهميشه تطبيقيا . لقد احتفى الأستاذ مفتاح بالاستعارة بمنظوراتها الجديدة في الغـرب
دون الالتفات بالشكل الذي يليق إلى منجز البلاغيين العرب القدامى الذين تحتفظ آراء هـم
إلى اليوم بالشئ الكثير من المعاصرة . أما من الناحية التركيبية فلم يستهو الأستاذ مفتاح
داخل القصيدة إلا ظواهر التشاكل و التباين واللزوم و التعدي و التكرار ورتبة مكوّنـات
الجمل الشعرية مع إغفال بلاغة الحذف والذكر و الفصل و الوصل و التعريف والتنكير
و الإثبات و النفي و التقديم والتأخير ، فضلا عن بلاغة التنويع في الجمل الاسمية والفعلية
من حيث الحجم وطرق الربط فيما بينها. أما بخصوص مقصدية ابن عبدون ، فقـد
أخضعها الأستاذ مفتاح لمقاصد قراءته ، التي لا تريد ابن عبدون إلا كاشفا عن عنـف
الدهر عبر استحضار تناصيّ يكون فيه صدى لمن سبقه من المؤرخين ممن أرّخو
للأحداث و الأساطير والحكايات الصالحة للاتعاظ وأخذ العبرة . ونظن أن تنصيص
الأستاذ مفتاح على عنصر المقصدية في تحليله ، فيه تعظيم لدور الوعي و الإرادة في
إنتاج المعنى الشعري. وبحديثه عن عنصر التفاعل يضعنا الأستاذ مفتاح في عمق نظريّـة
التلقي دون التصريح بذلك مباشرة .
      على هذا النحو اتخذ الأستاذ مفتاح قصيدة ابن عبدون ذريعة لتقديم إضاءة نقدية ،هي فـي
عمقها بمثابة " أولمبياد أوسرك " لتجريب وترويض مجموعة من المنهاجيات النقدية
 بعدغربلتها وانتقاء ما يخدم مقاصده التأويليةعلى نحوتلفيقـي.
وهاهنا سنتساءل: أين من كل ما سلف ، نظرية تحليل الخطاب الشعري التي وعد بها الأستاذ
مفتاح في القسم النظري من كتابه  ؟ وهل يكفي جهد علمي واحد ومقاربة متن شعري 
واحد لصياغة نظرية علمية كافية حول خطاب عتيد كالشعر ؟
                
لائحة  المراجع .
: شريق ( عبدالله )     : (  الشعر المغربي المعاصر وأسئلة النقد ) ، الملحق الثقافي لجريدة ـ العلم ـ
                                    يوم 8 يونيو، سنة: 1996 ، ص : 9  .
2 : عقار ( عبد الحميد)  : ( تطور النقد الأدبي الحديث بالمغرب ) ، مجلة : فكر و نقد ـ ، العدد : 6 ،
                                   فبراير سنة : 1998 ، ص : 62  .   
3 : مفتاح ( محمد )       :  تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص ) ، المركز الثقافي العربي
                                  الدار البيضاء ، الطبعة : 3 ، سنة : 1992  ، ص :  5 .
4 : مفتاح ( محمد )       :  المرجع نفسه ، ص :  7  .
5 : مفتاح ( محمد )       :  المرجع نفسه ، ص :  7  .
6 : مفتاح ( محمد )       :  المرجع نفسه ، ص :  125 .
7 : مفتاح ( محمد )       :  المرجع نفسه ، ص :  120 .
8 : مفتاح ( محمد )       :  المرجع نفسه ، ص :  121 .
 
 
   
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement