Created by Crazyprofile.com

   
  مركز الأقسام التحضيرية للأداب
  في جمهورية أفلاطون (مقاربة في ضوء كتاب أمير
 
في جمهورية أفلاطون (مقاربة في ضوء كتاب أميرة حلمي مطر)
الطالب: هشام تسمارت
تمهيد:
تمثل فلسفة أفلاطون بوضوح مختلف الأزمات التي توالت على أثينا كحرب المورة ( البيلونيز) في القرن الــ 5 ق.م ، و في هذا العصر لم ير الحكيم غير الظلام الذي أملى عليه ضرورة اللجوء إلى الذات ،إذ أصبح الفيلسوف على يقين تام بأن التوصل إلى الحقيقة الفلسفية يبقى صعبا بل مستحيلا ما لم تتحقق العدالة السياسية ، وقبل أن نرحل إلى جمهورية أفلاطون نعرض القليل عن حياة رجل ألهم العالم و جند الفكر الإنساني للتأمل ، ألا و هو أفلاطون.
أفلاطون و الجمهورية:
ولد أفلاطون عام 428 ق.م لأسرة عرفت بالنسب العريق ، و نشأ نشأة شباب أثيـــــــــــــنا الارستقراطي العالم ، فتعلم من السفسطائيين و سقراط كما تعلم عليهم مشاهير السياسة في عصره و منهم كراتياس و خارميدس و القبياديس. يقول أفلاطون "عندما كنت يافعا أحسست بما يحسه أغلب الشباب ، إذ كنت أتوق إلى ذلك اليوم الذي أستطيع فيه التصرف في مصيري و الاشتراك في العمل السياسي ، و هاك الحال التي وجدت عليها أمور الدولة..."(1)  ، و يبدأ أفلاطون هنا الحديث عن الاضطرابات السياسية و اللاستقرار في اليونان ، و يحكي عن الثورة التي تسلم الحكم إثرها واحد و خمسون رئيسا ، أحد عشر في المدينة و عشرة في ميناء ألباريوس أما السلطة العليا المطلقة فقد كانت في يد ثلاثين ، و كان من بينهم عدد من أٌقاربه كخاله خارميدس و كرتياس ابن عم والدته، و قد خيب هؤلاء مع مرور الوقت أمل أفلاطون الذي كان شاهدا على عدة تقلبات سياسية أقدم فيها الحكام على محاكمة أستاذه سقراط و إعدامه بعدما رفض القبض على أحد أصدقائهم ، و ٍ رأى أفلاطون و الحالة هذه أن المدينة لم تعد تحكم تبعا لتقاليدها القديمة بسبب فساد القوانين و الأخلاق ، و لهذا السبب لجأ إلى الفلسفة كما هو معروف و ذلك للاستنارة بنورها بغية تبين أمر العدالة سواء تعلق الأمر بالمجتمع أو الفرد ، و رأى أن مصائب البشر لن تنتهي ما لم يتول الفلاسفة الحقيقيون الحكم أو يتحول الحكام بفضل الإلاه إلى فلاسفة.خاب رجاء أفلاطون إذن و تحول إلى معارضة الديمقراطية التي أعدمت أستاذه سقراط كما كره الحكم الاوليجارشي و رأى أن الخلاص يكمن في الفلسفة ، و هو في هذا لم يكتف بالتنظير الفكري على نحو ما هو شائع و إنما خاض غمار الحياة و جاب أنحاء العالم المعروف في عصره و بدأ سلسلة رحلاته إلى مصر التي روى الكثير عن مآثرها و فنونها ، كما قام برحلات متعددة إلى ايطاليا و صقلية ، و قد اتصل ببلاط حاكم مدينة سيراقوصة بصقلية ديونيسوس الأول و تعرف
(1) – أفلاطون، الرسالة السابعة ص 324 –326
على صهره ديون و نشأت بينهما صداقة قوية انتهت بتدبير مؤامرة سياسية لتغيير الحكم في المدينة و ساءت العلاقة بينه و بين ديونيسوس الذي سلمه إلى سفير اســـــــــــبرطة عدوة مدينته أثينـــــــــــا، لكن افتداه صــــديق له يعرف بأنكــــــــــيرس.
و بعد عودته إلى أثينا أسس أفلاطون مدرسة في بستان بكل يسمى اكاديميوس و سميت مدرسته تبعا لذلك ( ظلت قائمة ما يربو على عشرين قرنا) . و كان لأفلاطون من خلال تعليمه بالأكاديمية مرام سياسية تمثلت في تكوين ثلة من الفلاسفة القادرين على نشر نظريات اجتماعية و سياسية في أنحاء اليونان ، و قد خرج سياسيين من قبيل ديون في صقلية و هيراقليد في تراقيا و أدوكس اللذين قاما بتشريع القوانين لكينيدوس و اسطاغرا.
كان أفلاطون يلقي محاضراته في الأكاديمية و لم يتبق سوى المحاورات التي كان ينشرها للجمهور فيما فقدت محاضراته التعليمية فما نشر لم يكن إلا شذرات عنى الباحثون بها، و رتبت محاوراته إلى ثلاث مجموعات :
1 – محاورات الشباب ( تتمحور حول سقراط و آرائه).
2- محاورات النضج.
3 – محاورات الشيخوخة ( مثلت تطور نظرياته عما كانت عليه في الصبا).  
و تعد محاورة الجمهورية من أهم ما كتب و هي عبارة عن نظريات مرتبطة تهدف إلى تكوين نظرية عامة لحياة الإنسان و المجتمع ، و كان لها في تاريخ الفلسفة تأثير لم يشهده أي عمل فلسفي عبر التاريخ و إن شاركتها محاورة تيماوس الأثر الفعال خاصة في القرون الوسطى ، و تسربت نظريات الجمهورية إلى كتب الرومان و العالم الإسلامي و المسيحي في العصر الوسيط كما تاثر بها شيشرون و ذلك فيما أثاره حول الطغيان و الديمقراطية و في كتابه " حلم سكيبيو" ، و في العالم الإسلامي عرف الفارابي جمهورية أفلاطون و تأثر بها كما تاثر بها القديس أوغسطين في رام الله.
و في القرون الوسطى كان نظام التعليم قريبا جدا من مناهج الدراسة في الجمهورية ، و قد بعثت في عصر النهضة و ذلك بفعل دعوة أفلاطون في جمهوريته إلى الشيوعية في الأموال ، أما في العصر الحديث فقد أثرت فلسفة أفلاطون بدعوتها إلى التخطيط العلمي للمجتمع و ضرورة قيام الدولة بمهام اجتماعية و تربوية و هكذا استطاع أفلاطون أن يظل حيا على مر القرون التي تلت كتابته للجمهورية.
موضوع محاورة الجمهورية:
حاول أفلاطون في محاورة الجمهورية تحديد صورة الدولة المثالية التي تتحقق فيها العدالة بصفتها فضيلة للنفس الفردية. و استغرق البحث في العدالة و شروط تحققها في المجتمع المثالي سبعة أبواب من الأبواب العشرة التي يتكون منها الكتاب إضافة إلى تفسير مصادر الفساد قبل أن يضع قانون تدهور التاريخ من الدولة الصالحة إلى الدولة الفاسدة ، و يستغرق هذا منه البابين الثامن و التاسع من المحاورة ، و في الباب العاشر ينهي أفلاطون حديثه عن العدالة بتأكيده على قيمتها و ما يترتب على وجودها من خير للمجتمع و الفرد و يقدم نقده للفن و يعلل رفضه الذي من اجله حكم على شعراء التراجيديا و هوميروس بالطرد من مدينته الفاضلة و يصف في نهاية المطاف ما ينتظر النفوس من حساب عادل في الحياة الآخرة.
أولا: العدالة و شروط تحققها:
يتناول أفلاطون في هذا الباب الآراء المختلفة في العدالة     و هي آراء كل من الشيخ كينالوس و ابنه بوليمارخوس الذي يمثل الرأي السائد في عصره عند عامة الناس ثم رأي تراسيماخوس السفسطائي و يمثل المذاهب الجديدة في الأخلاق و السياسة و هو الرأي الذي يتبناه أفلاطون من خلال موقفه المثالي و الارستقراطي من العدالة.
يقدم يوليمارخوس تعريف للعدالة استقاه من الشاعر سيمونيدس ، فيقول إن العدالة تقتضي أن يرد الإنسان كل ماله ، و يوضح هذا التعريف فيقول عن العدالة هي معاملة كل واحد بالمثل و حسب ما يستحق أي معاملة الأخيار بالخير و الأشرار بالشر .
لكن يرفض الجميع هذا التعريف بفعل انطوائه على تناقض كبير يبرز من خلال التساؤل التالي: كيف يضر العادل من خلال عدائه؟ و بمعنى أخر كيف يمكن للعادل أن يرتكب ظلما بعدالته؟ و بتدخل تراسيماخوس الذي يمثل الآراء السياسية المتطرفة يبرز تعريف جديد يتضمن مبدأ أخذت به الدولة الأثينية و يقول: إن العدالة ليست سوى العمل بمصلحة الأقوى ، و يتضح هنا أن العدالة متغيرة بتغير النظم و هذا التفسير يتفق إلى حد كبير مع قاله السفسطائيون و على رأسهم بروتاجوراس الذي رأى أن الإنسان مقياس كل شيء.
و في مقابل هذه المذاهب النسبية الواقعية في الأخلاق يأتي سقراط و تلميذه أفلاطون بفلسفة مثالية تؤكد وجود و ثبات القيم الأخلاقية، و حتى يفند سقراط رأي تراسيماخوس يلجأ إلى تشبيه الحكم بالفن المفيد للإنسان ، فكما أن للعين وظيفتها التي لا تؤديها الأذن للنفس وظيفتها التي تروم تحقيق السعادة ، و يدخل جلوكون على الخط فيقول إن الناس لا ترغب في العدالة لذاتها و لا يلتزمون بها إلا مجبرين حتى لا يصيبهم أذى من غيرهم إن عرفوا بالظلم، و هنا يعبر البيت الشعري الأتي عن الفكرة:
و الظلم من شيم النفوس فإن تجـد          ذا عفة فلعلة لا يظلـــــــــــــــــم
و يستدل جلوكون على رأيه بأسطورة جيجيس و قد كان راعيا يرعى المواشي لمـلك ، فحدث فجأة زلزال عنيف انشقت الأرض على إثره في غور منها و رأى حصانــا حديديا في جوفه جثة رجل يفوق في حجمه جسم الإنسان ، و كانت الجثة عاريــــــة و ليس بها سوى خاتم في إصبعها فأخذه جيجيس و خرج من الباطن إلى ظاهــــــــر الأرض ، و حين أدار الخاتم اختفى من بين رفاقه لكنه أداره من جديد و ظهر مـــرة أخرى ، و لما كان على الراعي أن يقدم التقرير للماشية تطوع من بينهم ليحمــــــــل الرسالة إلى الملك فدخل إلى القصر فلما دخل القصر قتل الملك و راود زوجته ثم استولى على الملك.
 أما أسطورة بروميثيوس ( حامي الإنسان) فتذهب إلى أنه بعدما حظي كل حيوان بشيء لم يتبق للإنسان أي شيء فسرق له بروميثيوس النار و وهبته الآلهة معرفة العدالة و العفة.
ما شروط الطبقة التي ستتولى حماية المدينة الفاضلة؟
ينبغي أولا اختيار أفراد الطبقة منذ الصغر و هو اختيار يراعي اللياقة و النفس العالية ، و يتم تعليم و تربية المختارين لفترة طويلة قبل أن يتم اختيار الأصلح من بينهم كي يكون حاكما يعقبه الآخرون كمساعدين أو كحراس ( شبه الحرس هنا بالكلاب الوفية لأصحابها و الشرسة مع أعدائها) ، و شدد أفلاطون على ضرورة مراقبة كل ما يصل لهؤلاء من قصص و موسيقى مع ضرورة تلقينهم كذبة مفادها أخوة الجميع و أن الأرض أم للكل.
يؤكد أفلاطون انقسام المجتمع إلى ثلاث طبقات متمايزة بحكم الطبيعة بحيث لا يصح أن تتدخل طبقة ما في عمل الأخرى:
 – الطبقة الممتازة ممثلة في الحكام و لا تشاركها الطبقة المنتجة نظرا لافتقارها إلى الحكمة التي يختص بها الحكام فيما يختص الحراس بفصيلة الشجاعة أما الطبقة المنتجة ففضيلتها التزام العفة و الاعتدال مع التحكم في شهوتها ، فالعدالة هنا تتمثل تأدية كل فرد داخل مجموعته للمهام المنوطة به و التي هيأتها له الطبيعة ، و تضيع العدالة في رأي أفلاطون لو شارك النجار في عمل الفيلسوف الحكيم و بهذا يصدم الديمقراطية ، و قد جاء في نص كلام أفلاطون عن العدالة في الجمهورية:
"سقراط: لتعلم إذن منذ البداية و عندما شرعنا في تأسيس مدينتنا أخذنا على عاتقنا واجبا و هو أن نبين ما هي العدالة . و قد ذكرنا مراراً، كنت تذكر أنه لا ينبغي لأحد أن يمارس إلا عملا واحدا في المجتمع و هو العمل الذي هيأته له الطبيعة".
و كل هذا تفاديا لاختلاط الطبقات الذي تنجم عنه فوضى و جرائم كما حدث في التصويت فأفلاطون يرى بأن تدخل الأكثرية كفيل بإثارة الفوضى و الصواب هو انفراد طبقة ارستقراطية بالحكم.
و بالنسبة لشروط تكوين طبقة الحراس قدم أفلاطون رأيين بمثابة صاعقتين تثيران الدهشة لدى المتلقي و هما:
1 – شيوعية المرأة.
2- تولية الفلاسفة الحكم.
أولا عبر إلغاء الزواج في نظام الأسرة لدى طبقة الحراس ( المرأة مشاعة) و يربى الأطفال في دور الحضانة و ترضعهم أمهاتهم و يتركون للمربيات ، كما شدد على مسألة عدم الإنجاب قبل البلوغ و ذلك حفاظا على السلالة النقية (لوجينيزم)، كما حرم الزواج بين الأخوة ، هذا و حظر الملكية على الحراس ، و قد تأثر أفلاطون بما كان يجري في اسبرطة حيث كانت هذه البلاد تحكم من طرف طبقة أرستقراطية حافظت على نظمها الحربية فيما بقي أهلها الأصليون مغلوبين على أمرهم ، و على الرغم من بغض اليونان لنظم اسبرطة إلا أن الدوائر السقراطية كثيرا ما كانت تبدي إعجابها بها.
حكم الفلاسفة:
أما الفكرة الثانية التي يفاجئنا بها أفلاطون فهي تولي الفلاسفة الحكم و أن يتحول من نسميهم ملوكا إلى فلاسفة حقيقيين و ما لم نر القوة السياسية تتحدد بالفلسفة و ما لم تسن قوانين دقيقة تبعد من لم يجمعوا هاتين القوتين ، لن تنتهي الشرور من الدول كما لن تنتهي في الجنس البشري. لكن ماذا يعني بالفلسفة ؟ إنها عنده محبة الحكمة و السعي إلى الحقيقة فأين هذه الأخيرة إذن؟
لا تتمثل السعادة حسب أفلاطون في الظواهر الحسية و لا هي مطلقة بل المهم هو مثالها العقلي، فالظن هو المعرفة التي تقف عند المحسوس و العلم معرفة يقينية تدرك الحقائق العقلية ، و لأفلاطون تشبيه مشهور يلخص فيه معرفة المثل و هو المعروف بتشبيه الكهف (يصور فيه عامة الناس مسجونين في كهف مظلم منذ الصغر و قيد قيدوا في هذا الكهف منذ ولادتهم و أدراروا وجوههم إلى شاشة على جدار الكهف تنعكس عليها ظلال ما هو في خارج الكهف من ضوء ينير عالما من الناس الذين يسيرون حاملين عرائس خشبية على أكتافهم ،و لما كان هؤلاء السجناء غير قادرين على الالتفات ورائهم فإنهم يظنون الظلال التي يرونها على جدار الكهف حقائق و يتوهمون أن ما يسمعون في خارج الكهف من أصوات صادرة عن أشباح ،فإذا تمكن أحدهم من الخروج ليرى الحقائق في الخارج و عاد هذا الرجل ليخبرهم أنهم واهمون فيما يظنونه حقيقة يسخرون منه و ينكلون به(1).
نجد في الأبواب الثلاثة من الخامس إلى السابع استرسالا يشرح فيه أفلاطون فلسفته الميتافيزيقية في الوجود و ذلك بالارتفاع عن القيم الواقعية التي يأخذ بها السفسطائيون من أمثال جورجياس و بروتاجوراس إلى المبادئ المثالية التي ينبغي أن تقوم عليها الدينة الفاضلة.
العدالة و الفرد:
إن العدالة في النفس الفردية ليست سوى انسجام بين قوى النفس المختلفة التي تقوم كل واحدة منها بالوظيفة الخاصة بها، فالشهوانية فضيلتها العفة و القوة فضيلتها الشجاعة فيما فضيلة القوة الغضبية الحكمة ، و بهذا تتحقق العدالة ، فلكل قوة وظيفة تؤديها و تلتزم بحدودها بغية تحقيق العدالة التي يصورها أفلاطون كهدف.
مصادر الفساد في الدولة :
بعد وصفه للمدينة الفاضلة يتحول أفلاطون إلى البحث في الدولة الفاسدة و صفات مواطنيها ، ويرتب الدساتير حسب صلاحيتها ، و هي دساتير كريت و اسبرطة التيموقراطية ثم الأوليجارشية و مقابلها الديمقراطية و أسوؤها جميعا الطغيان(1).
أما الدستور الأصلح فهو دستور المدينة الفاضلة و الذي تقابله الدساتير المذكورة آنفا ، و ليس أفلاطون أول من قارن الدساتير إذ كان السفسطائيون يتباهون بالديمقراطية الأثينية و قد كان النزاع بين أثينا و اسبرطة يمثل صراعا بين نظامين داخليين أي بين الديمقراطية الأثينية و الأرستقراطية الحربية في اسبرطة ، و قد وردت النظم الثلاثة في اليونان عند هيروديت و الذي جعلها( ملكية ، أرستقراطية ، ديمقراطية). و يمر فيلسوفنا بعد هذا إلى المقارنة بين سعادة الفيلسوف و سعادة الطاغية و تتطلب هذه المقارنة سبر أغوار النفس الإنسانية أولا ، فالنفس الإنسانية شأنها شأن الدولة تنقسم إلى ثلاث قوى سببها ثلاث لذات، قوى عاقلة لذتها الفكر و قوة غضبية تثور للكرامة و قوى شهوانية تسعى إلى كافة اللذات المادية ، فلذة الفيلسوف تسعى إلى توجيه الذات و تسيير القوى العاقلة فيما ينقاد الطاغية لشهواته التي تبدو في صورة وحش يقود إلى المخازي. و نتبين من خلال المقارنة الأخيرة بين حياة الفيلسوف من جهة و الطاغي من جهة اخرى أن الفيلسوف يتوق إلى اللذة العقلية فيما يركض الطاغية خلف اللذة الحسية المادية و خلاصة القول أن اللذة العقلية سبيل الإنسان إلى السعادة.
يعدد أفلاطون في محاورته أسباب تراجع المدينة و التي من بينها فساد الحكام و النسل و سوء أخلاق المواطنين ، و يرى أن الأوليجارشية تؤدي إلى الانقسام فهي تخلق مدينة للأغنياء و اخرى للفقراء ، و إذا كثر الفساد في الطبقة الحاكمة تحول الحكم من يد الأوليجارشية إلى يد الديمقراطية فالفقراء سينتصرون لا محالة حينما سيصبحون أكثر عددا ، و يضاف إلى أسباب الفساد هذه غلبة شهوة المال و سوء التربية زيادة على التهور ، و قد ظهر حكم الطغاة منذ القرن 7 ق.م في مدن آسيا الصغرى خاصة الصناعية و التجارية منها ثم انتقل إلى اليونان و بعد ذلك إلى جنوب ايطاليا و صقلية التي تولى فيها ديونيسوس مقاليد الحكم و هو معاصر لأفلاطون و قد ذكرنا قصته معه في غير هذا الموضع ، و قد كانوا يعارضون حكم الأغنياء و يناصرون طبقات الشعب الفقيرة و كان أكثرهم يرى بأهمية الفن و الآداب و قد عارض أفلاطون هذا النوع من الحكم ، غير أن ديونيسوس لم يك طاغية فاسدا و قاد حربا ضد القرطاجنيين و طرد الأثرياء و ووزع الأراضي على الفقراء ، و هذا ما يسميه أفلاطون بفوضى الحرية حينما يتحول الحاكم إلى محكوم و المحكوم إلى حاكم فالمساواة لا تجوز و هل بالإمكان مثلا المساواة بين الأب و ابنه؟ و بين العبد و السيد؟ فحتى الدواب قد تثور يوما ما.
 
 
(1 ) التيموقراطية هي حكومة الأرستقراطية الحربية و الاوليجارشية هي حكومة الأقلية الغنية ، " تاريخ الفلسفة عند اليونان" ص 147
ثالثا: رأي أفلاطون في الفن و النفس الباب العاشر من الجمهورية):
إن نقد الفن و الحديث عن مصير النفس عنصران مكملان لبحث أفلاطون عن العدالة، فهو يثبت أن العدالة هي الخير الوحيد الذي يناسب النفس الإنسانية:
(أ ) نقد الفن:
أجل أفلاطون حديثه عن الفن إلى الباب العاشر بعدما انتهى من وضع نظرياته الاجتماعية و السياسية، و قدم تفسيرا لحقيقة النفس الإنسانية، فهو يعارض شعر هوميروس و شعراء التراجيديا من منطلق المصلح الاجتماعي و يعارضه باسم الفيلسوف الأخلاقي أيضا.
لقد كان للشعر لدى اليونان وظيفة اجتماعية أخلاقية كبرى و لم يكن هدفه بث النشوة الجمالية في النفوس و تحقيق بهجة المتذوقين و إنما كان يقدم للمجتمع القديم ما تقدمه الكتب المقدسة من توجيه للحياة الإنسانية في مناحيها المتعددة و قد قدر أفلاطون وظيفتها لكن ما أغاضة في الأمر هو واقعية الشعر التي طبعت قصائد العديد من الشعراء أمثال بوريباس و الذين غيبوا البعد المثالي الذي ينشده أفلاطون على الدوام لتحقيق العدالة في مدينته، كما لم ترق له أيضا النزعات العاطفية في الشعر التراجيدي ، إذ أصبح المصور في نظره كحامل مرآة و لهذا اتهم الشعراء و المصورين بعدم تقديم خلق فني يعبر عن الحقيقة أو يرشد إلى الخير بدلا من مخادعة النفس و تضليلها خاصة لدى شعراء التراجيديا الذين يثيرون عاطفة الجماهير لما يعرضونه على خشبة المسرح من ماسي عنيفة و انفعالات عاصفة ، و خلاصة القول ان أفلاطون يرى التصوير محاكاة تلتزم بقواعد المنظور و الخداع البصري و من أشهر أتباع هذه المدرسة نذكر, أبوللودورس و براسيوس و زوكسيس ، أما شعراء التراجيديا فهم المعنيون بنقد أفلاطون بفعل مناصرتهم للديمقراطية و الطغاة و نظرا لإثارتهم عواطف الجماهير و تقويضهم البطولة التي يسعى دوما إلى إبرازها كشيء مثالي.
هكذا إذن قضى أفلاطون على الاتجاهات الفنية المعاصرة إذ لم يجد فيها ما يرومه من أهداف فلسفية و كان يستلهم في نقده هذا ألوان الفن التقليدي الذي قدمته حضارات قدماء المصريين ، فأفلاطون أعرب في الكثير من المحاورات عن قبوله للفن الذي يرى فيه تعبيرا عن الأهداف الدينية و المثالية و الأخلاقية، و لم يقبل إلا بالموسيقى التي تبعث الحماس في نفوس الجيد مثلا و قد عرض موقفه من الشعر في موضعين، ففي الباب الثالث لم يرفضه بشكل مطلق لكن استبعد الشعر التمثيلي لأنه شعر محاكاة فيما أعجب بالشعر الغنائي و الملحمي و الغناء التعليمي لان هذه الأنماط الفنية قادرة على احتواء مضامين سياسية خالدة تمثل هدف الشعر ، و يختتم النقد في الباب العاشر برفض التصوير و الشعر الذي بتبني المحاكاة فهو لا يطلب في مدينته إلا مدح الإلهة و الأبطال.
 
و في إطار الشعر دائما يرى أفلاطون أن الشعر مذهبين أسلوب بسيط و أسلوب محاكاة و يستعين هنا بمثال هوميروس حينما يروي كيف رجا الكاهن خريسيس أجامنون أن يرد الفتاة ، فهوميروس هنا يروي بأسلوبه ما قاله خريسيس و يرى أفلاطون أنه لا ينبغي لحكام المدينة الفاضلة أن يمارسوا المحاكاة لأنها ستعودهم التلون و التقلب بينما الحاكم مطالب بالثبات في التمسك بمبادئه، و يختم أفلاطون الحديث بعبارته المشهورة " و يبدو لي انه إذا حضر إلى مدينتنا رجل ماهر في اتخاذ الأساليب ليعرض على الجمهور أشعاره فسوف نكره تكريم كائن مقدس و لكننا نخبره انه لا مكان لمثله في مدينتنا و نصرفه على مدينة أخرى بعد ان نعطره بالمسك". وبهذا يكون لزاما على الإنسان أن يتعامل مع الجزء السامي من النفس الإنسانية.
مصير النفس:
و في الختام يرى أفلاطون أن الإنسان العادل محبوب من طرف الجميع كما سيكون أسعد من الظالم ، ويتحدث هنا عن خلود النفوس و حساب الحياة الآخرة و يروي أسطورة تصف العالم الأخر و هي معروفة باسم " اربن ارمينيوس مواطن بامفيليا" فبعدما مات ار عاد ليحكي ما شاهده في يوم الحساب و كيف تحكم الآلهة على الأشرار بعذاب اليم في الجحيم خلال ألف عام فيما تنعم النفوس الخيرة بالنعيم ، و بعد الجزاء تعود كل نفس لتقضي سبعة أيام في سهل تحكمه آلهة الضرر و القدر.
و تعلن الآلهة للنفوس أنها ستعود للحياة الدنيا مرة أخرى، أما الأبطال فيعيشون للمجد و كل نفس تختار حياتها بعد عودتها إلى الأرض.
و بكلمات سقراط الخالدة عن العدالة تصل الجمهورية إلى نهايتها:
"لئن صدقتموني و علمتم آن النفس خالدة و حرة في اختيارها الخير فستهتدون إلى سواء السبيل و ستلتزمون دائما بالعدالة و الحكمة في أفعالكم لكي تمتلئ نفوسكم طمأنينة و أمنا فيما بينكم و مع الآلهة أيضا ليس فقط في هذه الدنيا ، بل فيما بعد و في يوم الحساب".
 
 
 
 
 
   
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement